الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال الخازن: قوله سبحانه وتعالى: {إن المتقين في جنات وعيون}.المراد بالمتقين الذين اتقوا الشرك في قول جمهور المفسرين وقيل: هم الذين اتقوا الشرك والمعاصي والجنات والبساتين والعيون والأنهار الجارية في الجنات، وقيل: يحتمل أن تكون هذه العيون غير الأنهار الكبار التي في الجنة، وعلى هذا فهل يختص كل واحد من أهل الجنة بعيون أو تجري هذه العيون من بعضهم إلى بعض؟ وكلا الأمرين محتمل فيحتمل أن كل واحد من أهل الجنة يختص بعيون تجري في جناته وقصوره ودوره فينتفع بها هون ومن يختص به من حوره وولدانه، ويحتمل أنها تجري من جنات بعضهم إلى جنات بعض لأنهم قد طهروا من الحسد والحقد.{ادخلوها} أي يقال لهم: ادخلوها والقائل هو الله تعالى أو بعض ملائكته {بسلام آمنين} يعني ادخلوا الجنة مع السلامة والأمن من الموت ومن جميع الآفات {ونزعنا ما في صدورهم من غل} الغل الحقد الكامن في القلب.ويطلق على الشحناء والعداوة والبغضاء والحقد والحسد، وكل هذه الخصال المذمومة داخلة في الغل لأنها كامنة في القلب يروى أن المؤمنين يحبسون على باب الجنة فيقتص بعضهم من بعض ثم يؤمر بهم إلى الجنة، وقد نقيت قلوبهم من الغل والغش والحقد والحسد {إخوانًا} يعني في المحبة والمودة والمخالطة، وليس المراد منه إخوة النسب {على سرر} جمع سرير.قال بعض أهل المعاني: السرير مجلس رفيع عدل مهيأ للسرور وهو مأخوذ منه لأنه مجلس سرور.وقال ابن عباس: على سرر من ذهب مكللة بالزبرجد والدر والياقوت والسرير مثل صنعاء إلى الجابية {متقابلين} يعني يقابل بعضهم بعضًا لا ينظر أحد منهم في قفا صاحبه، وفي بعض الأخبار أن المؤمن في الجنة إذا أراد أن يلقى أخاه المؤمن سار سرير كل واحد منهما إلى صاحبه فيلتقيان ويتحدثان {لا يمسهم فيها} يعني في الجنة {نصب} أي تعب ولا إعياء {وما هم منها} يعني من الجنة {بمخرجين} هذا نص من الله في كتابه على خلود أهل الجنة في الجنة، والمراد منه خلود بلا زوال وبقاء بلا فناء، وكمال بلا نقصان وفوز بلا حرمان. اهـ..قال أبو حيان: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45)}السرر: جمع سرير، ككليب وكلب.وبعض تميم يفتح الراء، وكذا كل مضاعفة فعيل.النصب: التعب.{إن المتقين في جنات وعيون ادخلوها بسلام آمنين ونزعنا ما في صدورهم من غلٍّ إخوانًا على سرر متقابلين لا يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين نبىء عبادي أني أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم}لما ذكر تعالى ما أعد لأهل النار، ذكر ما أعد لأهل الجنة، ليظهر تباين ما بين الفريقين.ولما كان حال المؤمنين معتنى به، أخبر أنهم في جنات وعيون، جعل ما يستقرون فيه في الآخرة كأنهم مستقرون فيه في الدنيا، ولذلك جاء: ادخلوها على قراءة الأمر، لأنّ من استقر في الشيء لا يقال له: أدخل فيه.وجاء حال الغاوين موعودًا به في قوله: {لموعدهم} لأنهم لم يدخلوها.والعيون: جمع عين.وقرأ نافع، وأبو عمر، وحفص، وهشام: وعيون بضم العين، وباقي السبعة بكسرها.وقرأ الحسن: ادخلوها ماضيًا مبنيًا للمفعول من الإدخال.وقرأ يعقوب في رواية رويس كذلك، وبضم التنوين، وعنه فتحه.وما بعده أمر على تقدير: أدخلوها إياهم من الإدخال، أمر الملائكة بإدخال المتقين الجنة، وتسقط الهمزة في القراءتين.وقرأ الجمهور: ادخلوها أمر من الدخول.فعلى قراءتي الأمر، ثم محذوف أي: يقال لهم، أو يقال للملائكة.وبسلام في موضع نصب على الحال، واحتمل أن يكون المعنى: مصحوبين بالسلامة، وأن يكون المعنى: مسلمًا عليكم أي: محيون، كما حكي عن الملائكة أنهم يدخلون على أهل الجنة يقولون: سلام عليكم.{ونزعنا ما في صدورهم من غل} تقدم شرحه في الأعراف.قيل: وانتصب إخوانًا على الحال، وهي حال من الضمير، والحال من المضاف إليه إذا لم يكن معمولا لما أضيف على سبيل الرفع أو النصب تندر، فلذلك قال بعضهم: إنه إذا كان المضاف جزأ من المضاف إليه كهذا، لأنّ الصدور بعض ما أضيفت إليه وكالجزء كقوله: {واتبع ملة إبراهيم حنيفًا} جاءت الحال من المضاف.وقد قررنا أنّ ذلك لا يجوز.وما استدلوا به له تأويل غير ما ذكروا، فتأويله هنا أنه منصوب على المدح، والتقدير: أمدح إخوانًا.لما لم يمكن أن يكون نعتًا للضمير قطع من إعرابه نصبًا على المدح، وقد ذكر أبو البقاء أنه حال من الضمير في الظرف في قوله: في جنات، وأن يكون حالًا من الفاعل في: ادخلوها، أو من الضمير في: آمنين.ومعنى إخوانًا: ذوو تواصل وتوادد.وعلى سرر متقابلين: حالان.والقعود على السرير: دليل على الرفعة والكرامة التامة كما قال: يركبون ثبج هذا البحر ملوكًا على الأسرة، أو مثل الملوك على الأسرة.وعن ابن عباس: على سرر مكللة بالياقوت والزبرجد والدر.وقال قتادة: متقابلين متساوين في التواصل والتزاور. اهـ..قال الثعالبى: قوله سبحانه: {إِنَّ المتقين فِي جنات وَعُيُونٍ ادخلوها بِسَلامٍ} الآية الـ: {سلام}؛ هنا: يحتمل أن يكونَ السَّلامة، ويحتمل أن يكون التحيَّة، وال {غِلٍّ}: الحقْد، قال الداووديُّ: عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم} الآية، قال: «إِذَا خَلَصَ المُؤْمِنُونَ مِنَ الصِّرَاطِ، حُبِسُوا عَلَى صِرَاطٍ بَيْنَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَيُقْتَصُّ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ بِمَظَالِمَ كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا، حَتَّى إِذَا هُذِّبُوا وَنُقُّوا، أُذِنَ لَهُمْ في دُخُولِ الجَنَّةِ، وَاللَّهِ، لأَحَدُهُمْ أَهْدَى بِمَنْزِلِهِ فِي الجَنَّةِ مِنْ مَنْزِلِهِ في الدُّنْيَا» انتهى.و{سُرُرٍ}: جمع سرير، و{متقابلين}: الظاهر أن معناه: في الوجوه، إِذ الأسرَّة متقابلةٌ، فهي أحْسَنُ في الرتبة.قال مجاهد: لاَ يَنْظُرُ أَحَدُهُمْ في قفا صاحبه، وقيل غير هذا مما لا يعطِيهِ اللفْظُ، و{نَصَبٌ}: التعب، و{نَبِّئْ}: معناه: أعْلِم.قال الغَزَّالِيُّ رحمه اللَّه في منهاجه: ومن الآيات اللطيفة الجامعةِ بَيْنَ الرجاءِ والخَوْفِ قوله تعالى: {نَبِّئ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الغفور الرحيم}، ثم قال في عَقِبَهُ: {وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ العذاب الأليم}؛ لئِلاَّ يستولي عَلَيْكَ الرجاءِ بِمَرَّة، وقوله تعالى: {شَدِيدِ العقاب} [غافر: 3]، ثم قال في عقبه: {ذِي الطول} [غافر: 3]، لَئِلاَّ يستولي عَلَيْكَ الخوف، وأَعْجَبُ من ذلك قوله تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ} [آل عمران: 30]، ثم قال في عَقِبَهُ: {والله رَءوفٌ بالعباد} [آل عمران: 30]، وأعجَبُ منه قوله تعالى: {مَّنْ خَشِيَ الرحمن بالغيب} [ق: 33]، فعلَّق الخشية باسم الرحمن، دون اسْمِ الجَبَّار أو المنتقِمِ أو المتكبِّر ونحوه، ليكون تخويفًا في تأمينٍ، وتحريكًا في تسكينٍ كما تقولُ: أَما تخشى الوالدةَ الرحيمة، أمَا تخشى الوالِدَ الشَّفِيقَ، والمراد من ذلك أنْ يكونَ الطَّريقُ عدلًا، فلا تذهب إِلى أَمْنٍ وقنوطٍ جعلنا اللَّه وإِيَّاكم من المتدبِّرين لهذا الذكْرِ الحكيمِ، العامِلِينَ بما فيه، إِنه الجَوَادُ الكَريم انتهى. اهـ..قال أبو السعود: {إِنَّ المتقين} من اتباعه في الكفر والفواحش فإن غيرها مكفر {فِى جنات وَعُيُونٍ} أي مستقرون فيها خالدين، لكل واحد منهم جنةٌ وعينٌ، أو لكل منهم عدةٌ منهما كقوله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ} وقرئ بكسر العين حيث وقع في القرآن العظيم.{ادخلوها} على إرادة القول أمرًا من الله تعالى لهم بالدخول، وقرئ {أدخِلوها} أمرًا منه تعالى للملائكة بإدخالهم، وقرأ الحسن: {أُدخِلوها} مبنيًا للمفعول على صيغة الماضي من الإدخال {بِسَلامٍ} ملتبسين بسلام أي سالمين أو مسلَّمًا عليكم {ءامِنِينَ} من الآفات والزوال.{وَنَزَعْنَا مَا في صُدُورِهِم مّنْ غِلّ} أي حقدٍ كان في الدنيا، وعن علي رضي الله تعالى عنه: أرجو أن أكونَ أنا وعثمانُ وطلحةُ والزبيرُ منهم رضوان الله تعالى عليهم أجمعين {إِخْوَانًا} حال من الضمير في قوله تعالى: {فِي جنات}، أو من فاعل ادخلوها، أو من الضمير في آمنين، أو الضمير المضاف إليه والعامل فيه معنى الإضافةِ، وكذلك قوله تعالى: {على سُرُرٍ متقابلين} ويجوز كونُهما صفتين لإخوانًا أو حالين من ضميره، لأنه بمعنى متصافِّين، وكونُ الثاني حالًا من المستكنّ في الأول، وعن مجاهد: تدور بهم الأسرّةُ حيثما داروا فهم متقابلون في جميع أحوالهم.{لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ} أي تعب بألا يكونَ لهم فيها ما يوجبه من الكدّ في تحصيل ما لابد لهم منه، لحصول كل ما يريدونه من غير مزاولةِ عملٍ أصلًا، أو بأن لا يعتريَهم ذلك وإن باشروا الحركاتِ العنيفة لكمال قوتِهم، وهو استئنافٌ أو حالٌ بعد حال من الضمير في متقابلين {وَمَا هُمْ مّنْهَا بِمُخْرَجِينَ} أبدَ الآباد لأن تمام النعمة بالخلود. اهـ..قال الألوسي: {إِنَّ المتقين في جنات وَعُيُونٍ} أي مستقرون في ذلك خالدون فيه، والمراد بهم على ما في الكشاف عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الذين اتقوا الكفر والفواحش ولهم ذنوب تكفرها الصلوات وغيرها، وفيه أن المتقي على الإطلاق من يتقي ما يجب اتقاؤه مما نهى عنه، ونقل الإمام عن جمهور الصحابة والتابعين وذكر أنه المنقول عن الحبر أن المراد بهم الذين اتقوا الشرك ثم قال: وهذا هو الحق الصحيح، والذي يدل عليه أن المتقى هو الآتي بالتقوى مرة واحدة كما أن الضارب هو الآتي بالضرب مرة فليس من شرط صدق الوصف بكونه متقيًا كونه آتيًا بجميع أنواع التقوى، والذي يقرر ذلك أن الآتي بفرد واحد من أفراد التقوى يكون آتيًا بالتقوى فإن الفرد مشتمل على الماهية بالضرورة وكل آت بالتقوى يجب أن يكون متقيًا فالآتي بفرد يجب كونه متقيًا، ولهذا قالوا: ظاهر الأمر لا يفيد التكرار فظاهر الآية يقتضي حصول الجنات والعيون لكل من اتقى عن ذنب واحد إلا أن الأمة مجمعة على أن التقوى عن الكفر شرط في حصول هذا الحكم، وأيضًا هذه الآية وردت عقيب قول إبليس: {إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين} [الحجر: 40]، وعقيب قوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سلطان} [الحجر: 42]. فلذا اعتبر الإيمان في هذا الحكم فوجب أن لا يزاد فيه قيد آخر لأن تخصيص العام لما كان خلاف الظاهر، فكلما كان التخصيص أقل كان أوفق بمقتضى الأصل والظاهر فثبت أن الحكم المذكور يتناول جميع القائلين لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو كانوا من أهل المعصية، وهذا تقرير بين وكلام ظاهر اهـ.وقد يقال: لا شبهة في أن السياق يدل على أن المتقين هم المخلصون السابق ذكرهم وأن المطلق يحمل على الكامل والكامل ما أشار إليه الزمخشري ولا بأس بالحمل عليه وقيل إنه الأنسب.وإخراج العصاة من النار ثابت بنصوص أخر، وكذا إدخال التائبين الجنة بل غيرهم أيضًا فلا يلزم القائل بذلك القول بما عليه المعتزلة من تخليد أصحاب الكبائر كما لا يخفى، وأل للاستغراق وهو إما مجموعي فيكون لكل واحد من المتقين جنة وعين أو إفرادي فيكون لكل جنات وعيون، والمراد بالعيون يحتمل كما قيل أن يكون الأنهار المذكورة في قوله تعالى: {مَّثَلُ الجنة التي وُعِدَ المتقون فِيهَا أَنْهَارٌ مّن مَّاء غَيْرِ ءاسِنٍ وَأَنْهَارٌ مّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ} [محمد: 15]. الآية، ويحتمل أن يكون منابع مغايرة لتلك الأنهار وهو الظاهر، وهل كل من المتقين مختص بعيونه أو ليس مختصًا بل تجري من بعض إلى بعض احتمالان فإنه يمكن أن يكون لكل واحد عين وينتفع بها من في معيته، ويمكن أن تجري العين من بعضهم إلى بعض لأنهم مطهرون عن الحقد والحسد، وضم العين من {عيون} هو الأصل وبه قرأ نافع. وأبو عمرو. وحفص. وهشام وقرأ الباقون بالعكس وهو لمناسبة الياء.{ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (46)}.{ادخلوها} أمر لهم بالدخول من قبله تعالى، وهو بتقدير القول على أنه حال أي وقد قيل لهم ادخلوها، فلا يرد أنه بعد الحكم بأنهم في الجنة كيف يقال لهم ادخلوها، وجوز أن يقدر مقولًا لهم ذلك والمقارنة عرفية لاتصالهما، وقيل: يقدر يقال لهم فيكون مستأنفًا، ووجه ذكر هذا الأمر بعد الحكم السابق بأنهم لما ملكوا جنات كثيرة كانوا كلما خرجوا من جنة إلى أخرى قيل لهم ادخلوها إلى آخره، وهو إنما يجري على تقدير أن يكون لكل جنات وبغير ذلك مما فيه دخل.وقرأ الحسن {ادخلوها} على أنه ماض مبني للمفعول من باب الأفعال والهمزة فيه للقطع، وأصل القياس أن لا يكسر التنوين قبلها إلا أن الحسن كسره على أصل التقاء الساكنين إجراءً لهمزة القطع مجرى همزة الوصل في الإسقاط.وقرأ يعقوب في رواية رويس كذلك إلا أنه ضم التنوين بإلقاء حركة همزة القطع عليه، وعنه {ادخلوها} بفتح الهمزة عليه وكسر الخاء على أنه أمر للملائكة بإدخالهم إياها، وفتح في هذه القراءة التنوين بإلقاء فتحة الهمزة عليه وعلى القراءة بصيغة الماضي لا حاجة إلى تقدير القول، والفاعل عليها هو الله تعالى أي أدخلهم الله سبحانه إياها {بِسَلامٍ} أي ملتبسين به أي سالمين أو مسلمًا عليكم وعلى الأول يراد سلامتهم من الآفة والزوال في الحال، ويراد بالأمن في قوله سبحانه: {ءامِنِينَ} الأمن من طرو ذلك في الاستقبال فلا حاجة إلى تخصيص السلامة بما يكون جسمانيًا والأمن بغيره.
|